الرئيسية / مقالات / قبل فوات الأوان

قبل فوات الأوان

 لن نبالغ إذا قلنا إن أهم إنجاز حققه الفلسطينيون قبل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية كان ترسيخ هذه الهوية، بل لم يكن من الممكن تأسيس هذه المنظمة لولا النجاح في حماية الذات من الضياع مع الأرض التي ضاعت فور وقوع النكبة، ظهرت بعض محاولات المقاومة المسلحة لكنها كانت ردود فعل سريعة، ولو اقتصر عليها دون موازاتها بإعادة بناء عناصر الهوية الوطنية لانتهت هذه المحاولات في ظل موازين القوى التي كانت قائمة. أما قيام المنظمات الفلسطينية ساهمت في تقوية هذه الذات وشعور الاعتزاز بالهوية العصية على الموت، فبدلاً من أن يكون المخيم رمزاً للهزيمة والانكسار، حوّله انطلاق الفدائي منه إلى رمز للصمود، ففعل المقاومة هنا منح الخيمة ومفتاح البيت وغيرها معاني إيجابية حتى ذابت في الهوية الوطنية. الحديث عن الهوية في الحالة الفلسطينية ليس خطاباً عاطفياً بل مسألة مركزية، فلم يكن من الممكن المحافظة على شعب تشتت في بلاد العالم واختلطت أجياله بثقافات ولغات مختلفة دون هوية جامعة، لهذا فإن الحركة الصهيونية بقدر ما تفاجأت بسهولة السيطرة على الأرض، تفاجأت أيضاً بقدرة الفلسطيني على المحافظة على ذاته وذاكرته، أي صار الصهيوني يسيطر على أرض دون هوية، في حين أن الفلسطيني احتفظ بتاريخ وهوية حتى دون أرضه. هذه المعادلة التي صنعها الفلسطيني شكلت في ما بعد جوهر الصراع الفلسطيني ـــ الصهيوني، لأن الفلسطيني استطاع توريث الوطن إلى الأجيال بالتزامن مع توريث رموز قضيته بمعانيها الإيجابية المرتبطة بالمقاومة. أما الصهيوني فلا يزال يخشى على قدرته في الاستمرار بالمحافظة على الأرض. في ظل كل التغييرات، علينا أن نسأل: هل ظلّ معنى الوطن كما رُسم في أعقاب النكبة على حاله؟ وهل لا تزال عملية توريث الوطن بصورته الأولى مستمرة؟ وهل هذه الرموز لها المعاني نفسها والتأثير عينه على حاملها؟ انّ الإجابة عن هذه الأسئلة هو تحليل التغييرات السياسية الجوهرية التي أتت بها اتفاقات أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، لأن هذه التغييرات مسّت عصب المؤسسات الوطنية الممثلة للشعب الفلسطيني، كما مست طبقاته الاقتصادية وحياته الاجتماعية، وكله انعكس تلقائياً على ثقافته الوطنية. وعلى حساب منظمة التحرير التي تحولت بدورها إلى هياكل دون وظائف حقيقية. هذا التغيير في دور المؤسسات انعكس على تمثيل الشعب وترابطه، ففي الوقت الذي تمثل فيه المنظمة شعبها في مختلف أماكن وجوده، فإن السلطة قانونياً لا تمثل سوى سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، ومع انتقال ثقل القضية من الشتات إلى أراضي 1967، انعكس ذلك على قضية اللاجئين التي أصبحت ملفاً مدرجاً على أجندة المفاوضات فقط. من هنا، بدأ اللاجئ نفسه يشعر بضعف هذا التمثيل عملياً عدا التغيير الذي طرأ على الترابط مع فلسطينيي الداخل، لذلك فإن الهوية التي تم تعزيزها وجدانياً ربما هي اليوم في طور الانحسار. إذا ربطنا كل تلك التغييرات بالمسار السياسي للسلطة فسنجد أننا أمام تراجع بدأ يمّس الإنسان الفلسطيني ، فالسلطة كسرت بسلوكها السياسي ونهجها المعادلة ، فلم يعد الصراع اليوم على الوطن بكل ما يمثّله، بل أضحى الصراع محصوراَ على بعض الأراضي في الضفة الفلسطينية ، كما تلاشى الكفاح للمحافظة على الإنسان وذاكرته الجماعية لحساب مفاوضات عبثيّة عنوانها التنازل والخضوع لموازين القوى المهيمنة على القرار الفلسطيني . ولأن الوطن حق مقدس وثابت، في حين أن السلطة عبارة عن جهاز سياسي قابل للتغيير، علينا الاستمرار في الصمود و ألاّ نصدق كثيراً من يحمل مفتاحاً لبيت جده في يافا ويجوب به شوارع الضفة وغزة وهو في الوقت نفسه يحلم في الهجرة إلى أوروبا، كما علينا أن نخاف على أجيالنا ، فيما يشطب أكثر من نصف خريطة الوطن. هي دعوة جادة وصادقة إلى ضرورة التمسك بثوابت شعبنا وإعادة تفعيل المؤسسات الوطنية بما يحقق طموحات شعبنا في استرداد كامل أرضه .

*حسان علي• عضو اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين .. سورية

شاهد أيضاً

ليس حرا من يُهان أمامه إنسان ولا يشعر بالإهانة

هذه المقولة للزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، وتعني أن الحرية لا تقتصر على الحرية الشخصية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *