الرئيسية / الاخبار / ( نرجس بري ) الباب الرابع : البحر الأسود

( نرجس بري ) الباب الرابع : البحر الأسود

أطلق على البحر الأسود هذا الاسم لأنه حسب الأساطير اليونانية القديمة هو بحر غير مضياف مليء بالعواصف المفاجئة .

الدخول في علاقة عابرة أشبه بالقفز الجزافي في مياه البحر الأسود العاتية وأنت على دراية تامة بعدم إجادتك السباحة فيها , فتكون البداية لطيفة لأنك لازلت تشعر بقدميك تلامسان الأرض ثم يجرفك التيار شيئا فشيئا إلى اللاأمان , فتتقلب وسط أمواج المشاعر الهمجية وتتخبط بين النزوات الشهوانية إلى أن تنهار قواك وتجد نفسك في المجهول غير قادر على العودة إلى الشاطئ و لا بقادر على السباحة إلى الضفة الأخرى فيبتلعك البحر ويقدمك وليمة للحيوانات البحرية.

لم ادخل يوما في علاقة عابرة رغم أن معظم أقراني قد فعلوا خاصة في فترة المراهقة ظنا منهم أن ذلك يثبت مقدار رجولتهم أو أنوثتهن.

ربما كان لطريقة تربيتي الفضل في ذلك لان جدتي منذ طفولتي علمتني أن كل شيء في الحياة يحتاج إلى الجهد والوقت لينضج كالثمار تماما و العلاقات العاطفية أيضا لا تنجح إلا إذا أخذت الوقت و الجهد الكافي لبنائها بطريقة صحيحة ثم استمرارها.

كنت اطمح دائما إلى أن التقي برجل مناسب يفهمني ويتفهمني ويبادلني المشاعر بالقدر والطريقة ذاتها …شخص إذا أدارت لي الحياة وجهها وجدته فاتحا ذراعيه لي ..شخص يكون لي رجلا لا علي .

كم تلقيت من دعوات للغداء أو العشاء من رجال مختلفين ..وكم احضروا لي الهدايا والتذاكر لحضور المناسبات المختلفة برفقتهم, حاولوا كثيرا أن يتقربوا مني بطرق لطيفة وحضارية لكني لم أجد في احد منهم ما ابحث عنه لذلك كنت انهي الأمر بسرعة كي لا يتأملوا مستقبلا وكي لا أؤذي مشاعرهم أكثر من ذلك لأني اعلم تماما قيمتها.

لكن لكل قاعدة استثناء يتمرد عليها ويأبي إلا إن يكون قائما بذاته.

في صباح أخر يوم من الخريف ذهبت لرؤية البحر قبل أن يتجمد بحلول الشتاء…جلست على تلك الرمال الباردة ولمست المياه بيدي مد فجزر ثم مد فجزر ..رؤية البحر تساعدني على التأمل والتفكر انه مكاني السري الذي افر إليه حينما ارغب بالتواجد بمفردي..في طفولتي كنت اكتب مذكراتي هنا وعندما كبرت لم يعد الوقت يسعني للمجيء كثيرا…لكن عادتي في الكتابة لا تزال قائمة .

كنت منسجمة جدا وأنا انظر إلى الأمواج وهي تأتي وتذهب وبين موجة آتية وأخرى ذاهبة تهب ريح باردة قليلا ثم تتوقف.

احمرت يداي ووجنتاي من شدة البرد فأغلقت أزرار معطفي كلها وجعلت انفخ في يدي قليلا كي أدفئهما وهممت بالرحيل لكن صوت شخص غريب استوقفني ..

قال: ” انتظري يا آنسة “.

شعرت بشيء من الريبة وأسرعت الخطى المتتابعة لكن خطاه سبقت خطاي .

وقف أمامي رجل يرتدي معطفا اسود طويل مما زاد من خوفي.

سألته بتردد نعم ماذا تريد ؟

أجاب وعلى وجهه ابتسامة بريئة يبدو أن البرد قد فعل فعلته بيديك

ونزع قفازيه واعطانيهما ..تفضلي ارتديهما ستشعرين بالدفء.

أجبته شكرا لك لكني لا اقبل الهدايا من الغرباء ثم إن لدي قفازاتي لكني نسيت إحضارها اليوم لأني كنت على عجلة من أمري.

فكر قليلا وقال إنها ليست هدية أنا أعيرك إياهما وسأستردهما في المرة القادمة حين أراكي ..

بدا لي كرجل مؤدب أراد تقديم المساعدة فأخذتهما

قلت له: شكرا لك وهممت بالرحيل .

استوقفني مجددا وهو يقول مازحا ولكن متى سأسترد قفازاتي .

ابتسمت ثم غادرت.

كان قلبي يدق لأول مرة دقة مختلفة ..كموسيقى اسمعها لأول مرة

كيف استطاع إقناعي هذا ما كان يجول بخاطري في تلك الأثناء.

عدت إلى البيت ووجدت جدتي قد حضرت طعام الغداء كنت جائعة جدا

فالبرد يجلب معه الجوع .

كان علي آن احضر بعد ذلك ما سأقدمه في الإذاعة في مساء الغد فجلست اكتب عن دخول فصل الشتاء ومن كلمة إلى أخرى أخطها على الورق وجدتني شاردة الذهن .

وضعت الأوراق والقلم على المكتب وذهبت للنوم وأنا لا اعلم ما ينتظرني في غدي.

استيقظت في اليوم الموالي ونظرت إلى النافذة و إذا بالبياض يكسو الطرقات والأشجار …لقد نزلت الثلوج في الليل مرحبة بفصل الشتاء ..

ذهبت إلى مخبرة جدتي للعمل أخبرتني بأننا سنطبخ اليوم نوعا جديدا من الخبز كنت مشغولة بخلط العجين واحتجت إلى المساعدة فناديت على الكسندر لكنه لم يجبني .

بحثت عنه في الأرجاء فلمحته خارجا واقفا بجانب امرأة حسناء كانت ترتدي معطفا احمر عليه فرو اسود فاخر و شعرها الأشقر المصفف بعناية يتدلى على كتفيها ..بدا لي أنهما يجاذبان أطراف الحديث فلم أشأ أن احشر نفسي بينهما وعدت لعملي .

بعد حوالي ساعة دخل الكسندر وسأل جدتي عن بعض الشاي الساخن فقد تجمد من شدة البرد .

انتظرت لوقت الاستراحة وأخذت بعض الكعك إليه ..كاد الفضول يقتلني لمعرفة من تكون تلك الحسناء فهذه من صفات النساء.

تفضل الكسندر هذا كعك الليمون .

اخذ قطعة وتناولها دون أن ينبس بكلمة واحدة .

سألته مازحة ألن تخبرني عنها؟

أجابني بشيء من الحزن أنت بالفعل تعرفينها…

قلت: أتقصد تلك التي حدثتني عنها سابقا ؟

أومأ بالإيجاب

قلت مستغربة وما الذي أتى بها إلى هنا الم ينتهي كل شيء بينكما.

قال ذلك الذي تركتني من اجله تركها من اجل أخرى اكتشفت بأنه زير نساء ..أتتني نادمة تطلب المغفرة .

سألته: و هل سامحتها ؟

قال: كلا لم افعل؟

قلت: ولكنك لازلت تحبها ربما تمنحها فرصة ثانية .

قال: حين يوضع الرجل المحب بين الكرامة و الحب فهو يختار كرامته فلا شيء يقتله كامرأة خانته مع آخر.

للكاتبة إيمان حسونه

شاهد أيضاً

منظمة الدرع – التواطؤ الأقليمي والدولي في ارتكاب جرائم دولية ضد الفلسطينيين في غزة.

مع دخول الحرب المدمرة على غزة شهرها الخامس لازالت إسرائيل تقوم بجرائمها بحق المدنيين الفلسطينيين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *